
هل تحسّن مكان العمل فعلًا أم أننا نعيش وهماً جماعياً؟
في بداية القرن الواحد والعشرين، كانت الصحة النفسية في العمل موضوعًا هامشيًا، يُذكر على استحياء في الاجتماعات الكبرى، أو يختبئ بين بنود سياسات الموارد البشرية. لكن خلال العقد الأخير، وتحديدًا بعد جائحة كوفيد التي قلبت موازين العمل التقليدي، حدث تحول جذري: بدأت الشركات العالمية تنظر إلى الصحة النفسية ليس كمجرد رفاهية، بل كأولوية استراتيجية تمس الإنتاج والربحية.
والغريب في الأمر أن بعض الشركات باتت تخصص ميزانية للصحة النفسية تفوق ما تنفقه على التدريب التقني. فلماذا هذا التوجه؟ وما الذي دفع الشركات إلى التفكير في العامل النفسي بشكل غير مسبوق؟ وهل بالفعل تغيّر شيء أم أن الأمر مجرد حملة علاقات عامة أنيقة؟
لماذا أصبحت الصحة النفسية قضية شركات لا أفراد فقط؟
في السابق، كان من المتوقع من الموظف أن “يتحمل” الضغط. أن يعمل تحت التوتر، ويضغط على أعصابه لتحقيق الأهداف، وأن يترك مشاكله النفسية عند الباب قبل الدخول إلى المكتب. لكن شيئًا ما تغيّر.
الشركات بدأت تلاحظ أن الإنتاجية لا ترتبط بعدد الساعات فقط، بل بالحالة النفسية للموظف. موظف قلق أو مكتئب لا يستطيع التفكير بوضوح، ولا يقدم أداءً مستقرًا، حتى لو جلس عشر ساعات على المكتب. هنا بدأت المعادلة تتغيّر.
دراسة حديثة من منظمة الصحة العالمية أظهرت أن الاكتئاب والقلق يُكلفان الاقتصاد العالمي ما يزيد عن تريليون دولار سنويًا بسبب انخفاض الإنتاجية فقط. هذا الرقم الضخم جعل مديري الشركات يعيدون النظر.
نماذج من الشركات العالمية: من الصمت إلى الاستجابة
الشركات الكبرى تحركت، وبعضها قام بخطوات غير متوقعة.
1. مايكروسوفت: وقت للتعافي
خصصت مايكروسوفت أيامًا كاملة مدفوعة الأجر للراحة النفسية، تُمنح للموظفين بدون سؤال أو تبرير. أطلقوا عليها اسم “Mental Health Days”، وكان الهدف منها بسيطًا: خذ يومًا لتعيد توازنك.
2. غوغل: غرف التأمل وسط الزحام
أنشأت غوغل غرف تأمل صامتة في كل مبانيها حول العالم. لا تحتوي على أي أجهزة، فقط إضاءة ناعمة، وأجواء هادئة، يمكن لأي موظف دخولها في أي لحظة للشعور بالراحة أو استعادة التركيز.
3. ساب SAP: مسؤول الصحة النفسية
عيّنت الشركة الألمانية مسؤولًا رسميًا للصحة النفسية في كل فرع، تكون مهمته الوحيدة هي دعم الموظفين نفسيًا. هذا الشخص لا علاقة له بالإنتاج أو التقييم، بل فقط بالاستماع والمساعدة.
حقائق غريبة عن رفاهية الموظفين في العصر الحديث
دعنا نتوقف هنا قليلاً ونتأمل بعض الوقائع التي قد تدهشك:
- هناك شركة تقنية في أيسلندا تمنح موظفيها ساعة يومية مدفوعة الأجر لممارسة التأمل أو المشي في الطبيعة.
- شركة في اليابان تدفع لموظفيها 200 دولار شهريًا إن أثبتوا أنهم ينامون على الأقل 7 ساعات في الليلة.
- دراسة في بريطانيا وجدت أن الموظفين الذين يربّون نباتات على مكاتبهم يعانون من توتر أقل بنسبة 37 بالمئة.
- أما في كوريا الجنوبية، فقد أطلقت بعض الشركات الكبرى برامج تجريبية للعلاج بالضحك، ضمن ساعات العمل.
كيف يتم قياس الصحة النفسية في الشركات؟
- الأمر لم يعد عشوائيًا. هناك مؤشرات حقيقية أصبحت تُقاس مثل:
- معدلات الإرهاق الذهني: كم موظف يشتكي من التعب العقلي
- مستوى الرضا عن التوازن بين العمل والحياة
- نسبة التغيب لأسباب نفسية
معدل الاحتفاظ بالموظفين في الأقسام عالية الضغط
شركات عالمية مثل Deloitte وAccenture أصبحت تنشر تقارير سنوية حول “الرفاهية المؤسسية”، تقيس من خلالها مدى تقدمها في هذا المجال، مثلما كانت تنشر تقارير الأرباح والخسائر.
هل المسألة مجرد موضة؟ أم ضرورة حقيقية؟
قد يقول البعض إن الأمر مجرد “ترند” تسويقي. ولكن الواقع يقول إن هناك دوافع حقيقية خلف هذا التوجه:
جيل جديد أكثر وعيًا: الموظفون من الجيل الجديد يرفضون بيئات العمل السامة، ويبحثون عن بيئة داعمة نفسيًا.
زيادة الوعي المجتمعي: التحدث عن الصحة النفسية لم يعد “تابو”، بل أصبح جزءًا من ثقافة العمل.
المنافسة على الكفاءات: الشركات تعلم أن أفضل العقول تختار الشركات التي تهتم بهم كأشخاص، لا كأدوات.
ما الذي يعنيه ذلك للموظف العادي؟
إذا كنت تعمل في شركة لا تزال تعتبر الصحة النفسية أمرًا شخصيًا لا يخص الإدارة، فقد حان وقت المطالبة. رفاهيتك النفسية ليست ترفًا، بل جزء من حقك الوظيفي، وأنت لست وحدك.
أصبح بإمكان الموظف اليوم أن يسأل عن سياسات الشركة النفسية في مقابلات التوظيف، تمامًا كما يسأل عن الراتب والإجازات.
المستقبل: هل يصبح أخصائي النفس جزءًا من كل فريق عمل؟
المثير أن بعض الخبراء يتوقعون أن يصبح وجود أخصائي نفسي داخلي في كل قسم مثل وجود مدير المشروع أو مدير الموارد. ليس بالضرورة لعلاج الاكتئاب، بل لتقديم أدوات الدعم الذهني، إدارة التوتر، وتطوير آليات التوازن العقلي.
الشركات الذكية تدرك أن الصحة النفسية ليست مجرد تفصيل صغير، بل جزء من استراتيجيتها الطويلة في الحفاظ على طاقم عمل قوي وفعّال.
لن يكون النجاح مرادفًا للإرهاق بعد اليوم
لقد اعتدنا لسنوات أن نربط بين النجاح والتعب، بين التفوق والانهيار، حتى أصبحنا نعتقد أن الضغط النفسي هو جزء طبيعي من العمل. لكن العالم بدأ يكتشف أن الصحة النفسية ليست عدو النجاح، بل شرطه الأساسي.
المستقبل لا يصنعه من يعمل أكثر، بل من يعمل بذكاء، ضمن بيئة تحترم إنسانيته، وتدعم توازنه، وتحفّز نموه.
ولعل هذا هو التحول الأجمل في بيئة العمل الحديثة: أن نبدأ في النظر إلى الموظف، لا كآلة إنتاج، بل كإنسان يحتاج إلى الدعم، الراحة، والمساحة ليكون أفضل نسخة من نفسه.
اترك تعليقاً