
منذ سنوات ليست بعيدة، كانت مشاركة المرأة في سوق العمل الخليجي موضوعًا يدور في دوائر مغلقة من الجدل، وكان الحضور النسائي في قطاعات كثيرة إما محدودًا أو شبه غائب. اليوم، المشهد تغيّر. تغيّر كثيرًا.
المرأة الخليجية لم تعد تنتظر الفرص، بل تصنعها. لم تعد تقف خلف الكواليس، بل أصبحت في الصفوف الأمامية. صارت قائدة، ومديرة، ومبادِرة، وشريكة حقيقية في بناء اقتصاد حديث. لكن، وعلى الرغم من كل هذا التقدم، ما زالت هناك تحديات… بعضها واضح، وبعضها مخفي تحت طبقات من العادات والتقاليد والسياسات القديمة.
في هذا المقال، سنحاول أن نقرأ الواقع كما هو: بعيون منصفة، وبقلب مفتوح. سنتحدث عن الإنجازات التي تستحق الاحتفاء، ونتوقف عند العقبات التي ما زالت تؤخر الحلم.
مشهد جديد من القيادة إلى الميدان
لعل أبرز ما يلفت النظر اليوم هو التحول السريع في حضور المرأة داخل بيئات العمل الخليجية. في السعودية مثلًا، كانت المرأة حتى سنوات قريبة تُمنع من قيادة السيارة، واليوم تجدها تدير شركات وتؤسس منصات وتقود فرقًا في أكبر الشركات المحلية والعالمية.
في الإمارات، أصبحت المرأة تشكل جزءًا أساسيًا من الحكومة ومجالس الإدارة. في قطر والبحرين والكويت، نجد نساءً يقدن قطاعات حيوية في الصحة والتعليم والطاقة والتكنولوجيا.
لم يعد حضور المرأة أمرًا رمزيًا، بل تحوّل إلى مشاركة فعلية لها أثر ملموس.
التعليم بوابة الدخول القوية
القاعدة الذهبية كانت دائمًا واضحة: التعليم هو الطريق. والمرأة الخليجية فهمت هذه المعادلة مبكرًا. في كثير من دول الخليج، تفوّقت الطالبات على الطلاب في نسب الالتحاق بالجامعات، بل وتفوقت كثيرات في التخصصات العلمية والهندسية والإدارية.
هذا التقدم في التعليم فتح الباب أمام فرص مهنية كانت مغلقة، وخلق جيلًا جديدًا من الشابات المؤهلات والمتحمسات للمشاركة في التنمية.
لكن، رغم هذا التفوق، لم يكن الطريق ممهدًا بالكامل. فبين الشهادة الجامعية والمكتب التنفيذي، كانت هناك فجوات اجتماعية وتنظيمية تحتاج إلى جهد مزدوج لتجاوزها.
التحدي الصامت: الموازنة بين العمل والحياة
أحد أكبر التحديات التي تواجه المرأة في الخليج هو كيفية الموازنة بين الوظيفة والحياة الأسرية. المجتمعات الخليجية ما زالت تتوقع من المرأة أن تكون “الأم المثالية”، و”ربة المنزل المتفرغة”، في الوقت نفسه الذي تطالبها بأن تكون موظفة ناجحة ومنتجة.
بعض بيئات العمل لا تراعي هذا التوازن، ولا توفّر المرونة المطلوبة، مثل ساعات العمل الجزئي، أو خيار العمل عن بعد، أو حضانات في مقر العمل. وهذا يدفع كثيرًا من النساء إلى اتخاذ قرار صعب: إما ترك الوظيفة، أو تجاهل طموحها المهني.
الحل لا يكمن في تضحية المرأة بأحد الجانبين، بل في إعادة تصميم بيئة العمل لتكون إنسانية أكثر، وعادلة للجميع.
صورة نمطية ما زالت قائمة
رغم التقدم، لا تزال بعض العقليات تنظر إلى المرأة في العمل نظرة “ناقصة”. هناك من يربط بين الكفاءة والجنس، وهناك من يفترض أن المرأة لن تستمر طويلًا في العمل لأنها قد تتزوج أو تنجب.
هذه الصورة النمطية، وإن بدأت تتغير، إلا أنها لا تزال تؤثر في قرارات التوظيف والترقية. كثير من النساء يتعرضن لسقف زجاجي غير معلن، يمنعهن من الوصول إلى المناصب العليا رغم كفاءتهن.
وللأسف، أحيانًا تكون هذه النظرة موجودة حتى في عقول النساء أنفسهن، بسبب التنشئة والموروث الاجتماعي.
الدعم الحكومي… نقطة قوة واعدة
الخبر الجيد أن كثيرًا من حكومات الخليج بدأت تدرك أن تمكين المرأة ليس قضية اجتماعية فقط، بل هو قرار اقتصادي ذكي. الاقتصادات العالمية أثبتت أن إشراك المرأة يرفع من الناتج المحلي، ويزيد من التنوع والإبداع داخل بيئة العمل.
لذلك، بدأت تظهر مبادرات وطنية داعمة للمرأة في التوظيف، وريادة الأعمال، والتدريب، وحتى في التمكين السياسي.
في السعودية، مثلًا، تم فتح مجالات جديدة للمرأة لم تكن متاحة سابقًا، مثل المحاماة والقيادة الأمنية. وفي الإمارات، هناك مجالس نسائية حكومية ترعى سياسات التمكين. وفي الكويت والبحرين، زادت نسبة تمثيل المرأة في البرلمان والمجالس البلدية.
ريادة الأعمال الملاذ الذكي
عندما تكون الوظائف محدودة أو البيئة غير مناسبة، تختار كثير من النساء الخليجيات طريق ريادة الأعمال. ومن خلال التجارة الإلكترونية، المشاريع الصغيرة، ومجالات التصميم والخدمات، ظهرت موجة نسائية جديدة تصنع نجاحها بيدها.
هذه المشاريع لا تخلق فرصًا لصاحباتها فقط، بل تساهم أيضًا في تنشيط الاقتصاد المحلي، وتقديم نماذج ملهمة للأجيال القادمة.
ومع وجود الإنترنت، والدعم الحكومي، ومنصات التمويل، لم يعد تأسيس مشروع خاص أمرًا مستحيلًا. بل بات خيارًا واقعيًا وواعدًا.
جيل جديد أكثر وعيًا وأقل خوفًا
ما يميز هذا الجيل من النساء في الخليج هو الوعي. لم تعد المرأة تطلب الإذن لكي تكون جزءًا من المشهد، بل باتت تفرض وجودها بثقة وذكاء.
هي تعرف حقوقها، وتفهم سوق العمل، وتجيد استخدام أدوات العصر من تكنولوجيا وتسويق وإدارة. لم تعد تنتظر الفرص، بل تصنعها.
وهذا التحول في الوعي هو أقوى من أي قانون. لأن التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، ويُصنع في تفاصيل الحياة اليومية، في اختيارات التعليم، وفي طريقة التفكير.
التحديات مستمرة لكننا لسنا في نقطة الصفر
من الظلم أن نختصر وضع المرأة في الخليج في صورة وردية، أو نظن أن كل الأبواب فُتحت. لا تزال هناك فجوات في الأجور، وتفاوت في الفرص، ونقص في التمثيل في بعض القطاعات.
لكن، مقارنة بالعقد الماضي، ما تحقق كبير. والمهم أن الطريق أصبح مفتوحًا. والتجارب الناجحة أصبحت أكثر، والتغيير بات جزءًا من الحراك المجتمعي العام.
ما تحتاجه المرأة الآن ليس فقط قوانين جديدة، بل وعي اجتماعي، وثقافة عمل عادلة، وشركاء داعمين من الرجال.
الخلاصة
المرأة في سوق العمل الخليجي ليست مجرد عنصر جديد، بل ركيزة أساسية في بناء المستقبل. إنجازاتها حقيقية، وتحدياتها واقعية، وطموحاتها لا سقف لها.
النجاح لن يأتي بسهولة، لكن التغيير بدأ. وكل يوم، تكتب امرأة خليجية قصة جديدة من الكفاح والتميز والنجاح.
في هذا المشهد المتغير، علينا أن ندعم كل خطوة، ونحتفل بكل إنجاز، ونتحدث بصراحة عن كل عقبة. لأن التمكين ليس شعارات، بل عمل يومي مستمر، يكتبه الجميع، رجالًا ونساء.
اترك تعليقاً